حين نقرأ رواية، نميل إلى افتراضٍ بسيط: الراوي صادق لانه من يقودنا عبر الأحداث، يرسم لنا الشخصيات، ويكشف ما خفي من العالم. لكن الأدب لا يكتفي بهذه الطمأنينة دائمًا؛ أحيانًا يقدّم لنا راويًا يهزّ ثقتنا، يلتوي بالكلمات، أو يرى الأشياء من زاوية مشوّهة. هنا يدخل القارئ لعبة شائكة: لعبة الراوي غير الموثوق، حيث لا يمكن التسليم بما يُقال، بل يجب الحفر وراء النص بحثًا عن الحقيقة.
---
أجاثا كريستي: ثقة تتحوّل إلى خيانة
في رواية من قتل روجر اكرويد قلبت كريستي الطاولة على القرّاء. الراوي، الطبيب، لم يكن مجرد شاهد بل كان يخفي جزءًا من الحقيقة. قوة كريستي هنا أنها لم تجعل الراوي يختلق أحداثًا، بل يقدّمها بترتيب وانتقاء يخدع القارئ. النتيجة: لحظة صادمة تغيّر طريقة قراءة الرواية البوليسية للأبد.
---
أمبرتو إيكو: التاريخ بلسان المزوِّر
في مقبرة براغ، يقدّم إيكو راويًا يعيش على الكذب والتزوير. لا يكتفي بالتحريف، بل يعيد كتابة التاريخ كله ليخدم أوهامه. يقول:
> "ما التاريخ إلا مجموعة من الأكاذيب المتفق عليها."
الراوي (سيموني سيميوني) يتنقّل بين الكذب والبارانويا والهذيان. إيكو جعل النص نفسه انعكاسًا للتلاعب؛ فالقارئ لا يعرف أين ينتهي التزييف ويبدأ الواقع. هكذا يتورّط القارئ في نفس لعبة المؤامرة التي يسخر منها الكتاب. قوة إيكو أنه لا يكشف الراوي الكاذب بل يترك القارئ يتورّط في ألاعيبه.
وهنا الراوي غير موثوق لأنه لا يؤمن بوجود حقيقة أصلًا، بل يراها صناعة بشرية يمكن تزييفها.
---
باتريك روثفوس: البطولة كما يريدها صاحبها
في اسم الريح، يروي كفوث سيرته بنفسه أمام كاتب تاريخ. كل كلمة منه تُشعرك أنه يصنع صورته بعناية. نحن نسمع عن بطولات عظيمة، لكن شيئًا ما يوحي أن الصورة منقّحة.
القوة هنا أن النص يتركنا بين التصديق والشك، فلا نعرف إن كان كفوث بطلًا حقيقيًا أم مجرد راوٍ يعيد تشكيل ذاته كما يحب.
الراوي غير موثوق لأنه ينتقي ما يقول، ويخفي ما لا يخدم صورته.
---
فرانك هربرت: الأسطورة التي ابتلعت الإنسان
في مسيح كثيب، لم يعد بول آتريديز مجرد إنسان؛ صار أسطورة تمشي على الأرض. حتى هو يعترف:
> "لقد صار اسمي أثقل من أن أحمله… أنا لست سوى أسطورة يسير الناس في ظلها."
هنا أن السرد لا يزيف الحقائق، لكنه يبيّن أن صورة البطل قد تغطي على واقعه. القارئ لا يعرف بول الحقيقي، بل يرى انعكاسه من خلال أسطورة تضخّمت حتى ابتلعته.
فالراوي غير موثوق لأن الواقع ذاته لم يعد يتيح صورة صافية.
---
جو أبركرومبي: لا صوت بريء
في النصل نفسه، يقدّم أبركرومبي عدة أصوات: جلاد، جندي محطم، ساحر عجوز… كل منهم يروي بزاويته الخاصة. لا أحد محايد، ولا صوت يملك الحقيقة كاملة.
القوة هنا أن الحقيقة تتفتت إلى روايات متناقضة، وعلى القارئ أن يجمعها بنفسه.
ولأن كل رواية ملوّنة بالتحيز، ولا يمكن الركون لأي منها على حدة.
---
حسين غلوم: الهامش الذي يفضح المتن
في صحوة الأقدمين، نجد أسلوبًا فريدًا. المتن يروي شيئًا، لكن الهامش يناقضه أو يخفف من يقينه. فجأة يتحول النص إلى ساحة جدل بين صوتين: صوت يصرّح، وصوت آخر يتردّد.
القوة هنا أن القارئ يشاهد الازدواج علنًا: الرواية لا تقدّم يقينًا واحدًا، بل تضعنا أمام تردّد داخلي مكشوف، هل أنا أمام حلم أم هلاوس مريض أم سحر يفوق تصور البشر أم أساطير ليس لها أصل؟
الراوي غير موثوق لأنه عاجز عن تقديم سرد متماسك، كأن النص نفسه يعيش قلقًا داخليًا.
---
وهنا تكون متعة الارتياب
كل كاتب استخدم الراوي غير الموثوق بطريقته: كريستي صدمت القارئ بخيانة الثقة، إيكو فضح التاريخ كصناعة زائفة، روثفوس جعل بطله يصوغ صورته، هربرت كشف مأساة الإنسان حين تبتلعه الأسطورة، أبركرومبي وزّع عدم اليقين على كل الأصوات، وحسين غلوم قدّم الهامش بوصفه مرآة للشك.
النتيجة أن القارئ لا يعود متفرجًا سلبيًا، بل يصبح محققًا يفتش وراء النص. هذه التقنية لا تسرق من الرواية صدقها، بل تمنحها حياة مضاعفة، لأنها تجعلنا ندرك أن الحقيقة في الأدب، كما في الحياة، ليست رواية واحدة… بل أصوات تتنازعها، وبعضها غير جدير بالثقة.